سمحت المقابلات التي اجرتها «العربية» مع الرئيس اليمني السابق علي
عبدالله صالح باعادة اكتشاف الرجل الذي لم يجد مشكلة في أنه صار رئيسا
سابقا. على العكس من ذلك، يتصرّف علي عبدالله صالح، الذي بقي في الرئاسة
ثلاثة وثلاثين عاما، بطريقة طبيعية. تفسّر هذه الطريقة الى حد كبير سبب
وجود ما يمكن تسميته «الاستثاء اليمني».
لعلّ أفضل ما يعبّر عن
«الاستثناء اليمني» وجود علي عبدالله صالح في صنعاء حيث يعيش في منزله
كمواطن عادي يتابع ما يجري في البلد وحوله وفي العالم، في حين كان مصير
الرئيس حسني مبارك السجن وزين العابدين بن علي المنفى ومعمّر القذّافي
القبر. أمّا بشّار الاسد، فيتابع قتل ابناء شعبه من منطلق أن لا مستقبل
لسورية من دونه.
كان في استطاعة علي عبدالله صالح البقاء في
السلطة وأخذ اليمن الى التفتت، لكنه فضّل الانسحاب في الوقت المناسب، أو
ربّما تأخّر قليلا. لكنّه انسحب في نهاية المطاف مفضلا البقاء في مقاعد
المتفرجين، ولو موقتا، حتى لا يقال انّه مصرّ على سفك الدماء في وقت انسدّت
في وجهه كلّ الآفاق السياسية ولم يبق من افق سوى تفتيت اليمن.
قبل
كلّ شيء، كان لافتا في حواراته مع «العربية»، أنّ الرئيس اليمني السابق
الذي يسمّيه القريبون منه «الزعيم» تفادى تصفية الحسابات مع خصومه السابقين
والحاليين. وهذه نقطة في مصلحته.
وضع الخصومات جانبا وحاول أن
يكون موضوعيا، قدر الامكان، حتّى عندما تعلّق الامر بالسيد علي سالم البيض
مثلا. فعلي سالم البيض الذي كان الامين العام للحزب الاشتراكي اليمني، لعب
الدور الحاسم في تحقيق الوحدة وفي جرّ رفاقه في الجنوب اليها في العام
1990.
لكنّ علي سالم البيض، وهو حاليا من أكثر المتمسكين
بالانفصال والداعمين له، هو الرجل نفسه الذي لعب دورا حاسما في تفجير الوضع
في العام 1994 بعدما اعتبر أن علي عبدالله صالح يرفض شركاء له في السلطة
ويريد تكرار تجربة «الجمهورية العربية اليمنية» في يمن ما بعد الوحدة. في
تلك المرحلة، أي بين 1990 و1994، كان علي سالم البيض نائب رئيس مجلس
الرئاسة ولم يشعر يوما، لاسباب عائدة ربّما الى تركيبته الشخصية، بأنه
مرحبّ به في العاصمة، فانكفأ الى عدن بالسرعة نفسها التي طار فيها الى
صنعاء بعد توقيع اتفاق الوحدة في مايو 1990.
أما بالنسبة الى
الخصوم الحاليين، فهو تحدث بأكبر مقدار ممكن من التجرّد عن اللواء علي محسن
الاحمر الذي انقلب عليه في 2011. لم ينكر أن الرجل دعمه مع آخرين من
القادة العسكريين والامنيين وزعماء القبائل عندما تعرّض للمحاولة
الانقلابية الاولى بعيد توليه السلطة في العام 1978. لم يخف أن القذّافي
لعب دورا في تلك المحاولة الانقلابية التي نفّذها «ناصريون».
اضافة
الى ذلك، كان تناوله لدور شخصيات يمنية كبيرة تناولا راقيا، خصوصا عندما
تحدث عن الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر والشيخ مجاهد ابوشوارب واللواء يحيى
المتوكل وآخرين صاروا في ذمّة الله، وعن الشيخ سنان ابو لحوم أطال الله
عمره.
كان ذهن علي عبدالله صالح في الحلقتين الاولى والثانية من
المقابلة الطويلة صافيا. بدا واضحا انه يسعى الى الوقوف على مسافة معيّنة
من الاحداث. والاكيد أن تقييمه لمرحلة قيام «مجلس التعاون العربي»، الذي
تأسس في العام 1989 وضمّ مصر واليمن والاردن والعراق، وظروفها لم يكن بعيدا
عن الواقع، كذلك عندما تطرّق الى طبيعة العلاقة التي ربطته بصدّام حسين
والى «عناد» الرجل. شرح الموقف اليمني بعد الغزو العراقي للكويت كما هو من
دون مواربة ولكن من دون الذهاب بعيدا في القيام بعملية نقد ذاتي يعتبر
كثيرون أنه كان يمكن أن تكون مفيدة.
في كلّ الاحوال، تبقى الملاحظة
المهمة التي يمكن أن تصدر عن اشخاص عرفوا علي عبدالله صالح طوال أقلّ بقليل
من ثلاثة عقود أن الرجل كان منصفا الى حدّ كبير في تقييمه للآخرين ولمراحل
تاريخية معيّنة. احدى المراحل هي احداث الجنوب في مطلع العام 1986. شرح
الاسباب التي حالت دون تدخل الشمال في تلك الاحداث، كما شرح قبل ذلك الظروف
المعقدة التي مرّت بها العلاقة بين الشمال والجنوب في العام 1979 والدور
الذي لعبته الكويت في وضع حدّ للحرب بين شطري اليمن. لعلّ اكثر ما كان
لافتا في حديثه عن الجنوب وصفه الدقيق لشخصية عبدالفتاح اسماعيل الذي كان
يعتبر منظّر الحزب الاشتراكي والذي راح ضحية احداث 1986.
من
يتابع الحلقتين الاولى والثانية من المقابلة التي اجراها الزميل طاهر بركة-
الذي يمكن وصفه بأنه احد افضل من يجري مثل هذا النوع من المقابلات التي
تحتاج أوّل ما تحتاج الى عدم مقاطعة الضيف وتوجيه اسئلة ذكية- يتذكّر علي
عبدالله صالح الشاب. ففي السنوات الاولى من حكمه، وصولا الى العام 1994،
كان الرجل شديد التواضع ويحسن اختيار المحيطين به. الاهمّ من ذلك كلّه أنّه
كان يجيد التواصل مع كلّ الناس من كل الفئات الاجتماعية والمناطق. كان
باختصار احسن يمني يعرف اليمن.
لا شكّ أنه مرّ بفترة اصيب فيها
اداؤه كرئيس ببعض الخلل. حصل ذلك بشكل تدريجي ابتداء من العام 1994. صار
يتصرّف بطريقة مزاجية وبنوع من الاستعلاء في ضوء الانتصار الذي تحقق في
العام 1994. كذلك، كبرت العائلة وهبط مستوى المستشارين الذين كانوا الى
جانبه وكانوا من النوع الذي لا يحسن أن يقول كلمة اخرى غير كلمة
نعم...استرضاء للرئيس.
المهمّ الآن، أن علي عبدالله صالح الذي
تخلّص من عقدة التوريث، استعاد بعضا من شبابه وصفاء ذهنه والكثير من تواضعه
وعفويته ومعرفته بالناس الذين يستحقون أن يكونوا موضع احترام. الدليل على
ذلك، أنّه لم يخف اعجابه بالملك حسين، رحمه الله.
الى متى يبقى
علي عبدالله صالح في مقاعد المتفرجين؟ في بلد مثل اليمن، لا يمكن التكهن
بالمستقبل. الاكيد أن الرجل، بحسناته وسيئاته، صنع الوحدة كما صنع
الاستثناء اليمني، بل تحوّل الى رمز له. وهو استثناء يسمح له بقول ما يقوله
في هذه الايّام بالذات في وقت يبحث اليمن عن صيغة جديدة للحكم تحدد
العلاقة بين السلطة المركزية والمناطق وبين المناطق والمناطق .
المصدر : الرأي الكويتية